في زمنٍ اختلط فيه الغناء بالضجيج، والنجم بالترند، ظلّ لطفي بوشناق واقفًا كالمنارة، لا يُشبه سواه، ولا يشبهه أحد. هو ليس مجرد مطرب، بل حامل رسالة، عازفٌ على أوتار الروح، ومُنشِدٌ يرفع صوته إذا خفتت الأصوات حول الكرامة والحرية والحق.
نشأ في تونس العاصمة، وارتشف من طفولته نوتات المالوف والمقامات الصوفية، فكانت المدرسة الرشيدية بوابته الأولى نحو الإبداع المنضبط، والحفر العميق في تربة الموسيقى العربية الأصيلة. هناك، صُقلت روحه على يد أساتذة كبار، فحمل العود على كتفه، لا كلحنٍ فقط، بل كأمانة.
ولقّبه كثيرون بـ**“پاڤاروتي العرب”**، ليس فقط لقوة صوته ومجاله الواسع، بل لأنه امتلك القدرة على أن يُحوّل كل عرض حيّ إلى احتفالٍ بالإنسان، والمسرح إلى فضاءٍ من الدهشة والسكينة. صوته لا يُصدح فقط، بل يملأ المكان بمعنى أكبر من الغناء.
لم يغنِ لطفي بوشناق للحب وحده، بل غنّى لـ الكرامة العربية، لفلسطين، لبغداد، لسراييفو، غنّى حين صمت الكثيرون، وارتفع حين انخفض السقف. لم يكن الفن عنده ترفًا، بل مقاومة، نبضًا شعبيًا، وشهادة على العصر. هو من قال: “أنا لا أغني لمجرد الغناء، بل أغني لأنني أحمل موقفًا.”
في صوته نبرة تصعد من أعماق التاريخ، فيها وجع الموشّحات، وعنفوان الملاحم، وانسياب العشق الطاهر. وحين يشدو، لا تسمعه فقط، بل تشعر به كصلاةٍ تُتلى على هيئة نغم.
تعاون مع كبار الشعراء والملحنين العرب، من سيد مكاوي إلى أنور براهم، ومن نزار قباني إلى الهادي الجويني. وكان دائمًا ذلك العاشق الوفي لتراثه، والمجرّب الجريء في الحداثة. فأدخل العود إلى مساحات موسيقية غير مألوفة، وغنّى حتى مع فرقة “Myrath” في تجربة مدهشة تجمع بين النيو-ميتال والطرب الشرقي.
رغم عروجه الفني، لم ينفصل لطفي بوشناق يومًا عن الناس. ظلّ قريبًا من وجعهم، بسيطًا في حضوره، نبيلًا في مواقفه. رفض المال حين تعارض مع القيم، ورفض التطبيع مع كيان محتلّ، قائلًا: “الفن الحقيقي لا يُشترى.”
نال جوائز وأوسمة، من واشنطن إلى باريس، من القاهرة إلى تونس، لكنه لم يتباهَ بها. كان يرى أن أعظم تكريمٍ له هو أن يُحبّه الناس كما هو: صوتًا يعبّر عنهم، وصورةً لضميرهم.
وها هو اليوم، ما زال يغني كما لو أنه ينقذ العالم بصوته. عوده ما زال يلمع، وصوته ما زال يُربك السطحيين، ويُطرب المشتاقين إلى فنٍ له معنى.
لطفي بوشناق، هو ذلك النوع النادر من الفنانين الذين لا تُقاس قيمتهم بعدد الألبومات، بل بوزن الكلمة التي يقولونها، وحرارة النغمة التي يهبونها للعالم.
في حضرته، ندرك أن الفن قد يكون فعل مقاومة، وقد يكون صلاة… وأن الصمت بين جمل أغنياته، أبلغ من كثير من الكلمات.