كتاب "إنسانية محمد، وجهة نظر مسيحية" لمؤلفه عالم الاجتماع الأمريكي كرايغ كونسيدين ليس مجرد إعادة سرد لمواقف مألوفة من سيرة النبي، بل هو محاولة ذكية لإعادة تقديمه للعالم، لا باعتباره فقط نبيًا كريمًا، بل رمزًا للضمير الإنساني.
يتناول المؤلف الدكتور كريغ كونسيدين مفهوم "الرحمة النبوية" في فصل مؤثر من الكتاب، من زاوية قد تغيب عن كثير من المسلمين، حين يشير إلى أن النبي محمد لم يكن رحيمًا فقط بمن يحبونه أو يتبعونه، بل حتى بمن خالفوه أو أساءوا إليه.
ويروي المؤلف موقف النبي الكريم من أهل مكة يوم الفتح، ويضعه في مقارنة واضحة مع سلوكيات الزعماء في التاريخ الإنساني عندما تؤول إليهم القوة...فيقول، بإعجاب لا تخطئه العين، إن النبي اختار أن "يعفو حين تمكّن"، وهو ما يعدّه المؤلف لحظة أخلاقية فريدة، بل مقياسًا عالميًا للقيادة النبيلة.
ويثير الكتاب أسئلة أخلاقية عميقة حول صورة القائد: هل القائد الناجح هو من يحقق النصر؟ أم من يحافظ على إنسانية خصومه بعد النصر؟
وفي كل مرة، يعود الدكتور كريغ كونسيدين إلى النبي محمد، فيجد الإجابة واضحة على هذا السؤال، وهو القائد المنتصر، ويرى في هذا النبي أن النصر فيه الرحمة، والقوة فيها التواضع، والانتصار بالأخلاق.
ويتوقف المؤلف أيضًا عند تفاصيل صغيرة لكنها بليغة في دلالتها؛ مثل جلوس النبي على الأرض، ورفضه المبالغة في الثناء عليه، وتواضعه صلى الله عليه وسلم في طعامه ولباسه، ورفضه أن يُعظَّم كما يُعظَّم الملوك.
ويصف المؤلف هذه الصفات بأنها "صوت الضمير في وجه التسلّط"، مؤكدًا أن العالم اليوم، في زمنٍ يزداد فيه الجفاف الأخلاقي، بحاجة إلى مثل هذه النماذج.
وفي سياق آخر، يتأمل المؤلف في خطاب النبي إلى الوفود من أديان وثقافات مختلفة، فيرى فيه خطابًا إنسانيًا شاملًا، لا يُقصي، ولا يُقصَر على جماعة، بل يُخاطب الكرامة الأصلية في كل إنسان.
ويذكّرنا الدكتور كريغ كونسيدين بأن النبي العظيم استقبل وفد نجران المسيحي في مسجده، وسمح لهم أن يؤدوا صلاتهم فيه، دون أن يشعر بتهديد أو قلق، بل رحّب بحريتهم الروحية، كما يرحّب الإنسان بإنسانية الآخر.
ليس غريبًا إذًا أن يكتب كريغ كونسيدين هذا الكتاب، بل الغريب هو قلّة من كتبوا مثله.
لقد اختار أن ينظر إلى النبي من زاوية إنسانية، فوجد فيه ما يبحث عنه الضمير المعاصر: القدوة التي لا تنتمي إلى طائفة، بل تنتمي إلى البشرية كلها...وفي زمن تكثر فيه الأصوات التي تُقسّم وتُخوّف، جاء هذا الصوت من قلب أمريكا، ليقول شيئًا بسيطًا وعميقًا:
"إن كنتم تبحثون عن قدوة أخلاقية عالمية، فانظروا إلى النبي محمد، لا كزعيم ديني، بل كإنسان يعلّمنا كيف نكون بشرًا."
إن ما فعله الدكتور كريغ كونسيدين في كتابه "إنسانية محمد، وجهة نظر مسيحية" لا يُختزل في عرض أكاديمي، بل هو موقف أخلاقي...فقد اختار أن يسير بعكس التيار، ويكتب عن نبيّ الإسلام بلغة الاحترام، في بيئةٍ كثيرًا ما رسمت صورًا مغلوطة عن الإسلام ونبيّه... ولذلك، لم يكن تأثير هذا الكتاب محدودًا في دوائر النخبة، بل لقي صدىً واسعًا لدى المسلمين في الغرب، الذين رأوا فيه صوتًا نقيًا يعكس ما حاولوا طويلًا أن يشرحوه بلغاتٍ مختلفة.
وفي تعليقات كثيرة نُشرت حول الكتاب، عبّر قراء مسلمون عن امتنانهم العميق لهذا الجهد، لا لأنه دافع عن نبيّهم، بل لأنه أنصفه دون أن يُطلب منه ذلك...ففي عالم تتداخل فيه السياسة والدين والإعلام، يصبح الإنصاف عملًا شجاعًا، وربما نادرًا.
إن مثل هذا الكتاب ليس فقط شهادة منصفة، بل مرآة، تُرينا كيف يرى الآخرون نورًا في نبيّنا، قد نغفل نحن عنه في زحمة العادة والتكرار.
وهو أيضًا دعوة، نعم دعوة إلى أن نعيد قراءة سيرة النبي الكريم بعيدًا عن النمطية، لنراها بعين القلب والعقل معًا، وبلغة تتجاوز الأسوار، لتخاطب الإنسان في كل مكان.
فحين نقرأ في عيون الآخرين ملامح الرحمة في نبيّنا، وحين نلمس في كلماتهم أثره فيهم، ندرك أن الرسالة التي بدأها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لم تكن للعرب وحدهم، بل كانت – حقًا – للناس كافة.
الأسبوع القادم بإذن الله نتقابل مع قراءة جديدة وكتاب مختلف.
عبد المنعم معوض