لم تكن طفولتى مبهجة أو سعيدة، فقد عشنا وكنا تسعة أفراد على معاش جدى الضئيل. ولم تهبنى طفولتى أى شىء بينما غرست فيها الكثير من أحلامى. وخلال ذلك كانت البهجة الوحيدة فى سنواتى المبكرة هى الكتب، فقط الكتب التى فتحت عينى عليها فى مكتبة جدى أولًا، ثم مكتبة والدى فيما بعد. وحدها الكتب هى التى أفسحت لى مجالًا واسعًا للفرح والخيال بعيدًا عن حصار المعيشة الصعبة.
فى الثانية عشرة من عمرى كنا نسكن فى شارع مصر والسودان، وكان فى صالة بيتنا صوان ممتلئ بالكتب، كلها روايات روسية!
فرغت منها خلال عدة شهور، ثم لجأت إلى الرصيف، إلى «عم حجازى» الذى كان يعرض الكتب على سور فيلا مهجورة بالقرب منا ويقف بجوار السور أمام لوح رسم ممسكًا بفرشاة يرسم صور المطربين والنجوم ليبيعها، وعقدت معه اتفاقًا أن أعطيه قرش صاغ كل يوم مقابل أن أقرأ قدر ما أستطيع دون أن آخذ كتابًا لى أو معى، وكنت أخرج من المدرسة وأتجه إليه بحقيبتى وأجلس على الرصيف وأظل أقرأ حتى تعتم الدنيا فأصعد إلى بيتنا.
طالعت عنده مغامرات اللص الشريف «آرسين لوبين»، وروايات يوسف السباعى، و«ماجدولين» المنفلوطى، وكل ما هو مطبوع، وفرغت من قراءة كل كتب السور فى ثلاثة أشهر، وكلفنى ذلك نحو جنيه واحد فقط. قرأت حتى وقعت بالمصادفة على رواية ضمن سلسلة روايات الهلال بعنوان «ذات الرداء الأبيض» تأليف ويلكى كولينز، فتغير كل شىء فى عقلى وروحى. فقد كانت الرواية تشتمل على كل ما يمكن أن يأسر وجدان شاب صغير ويخرجه من حياته إلى حياة أكبر وأعرض، كانت مزيجًا عجيبًا سحريًا من الرومانسية والدراما العنيفة فى إطار بوليسى، وهى أول ما لفت نظرى إلى أن هناك شيئًا اسمه الأدب، وأن الكتاب قد ينطوى على قيمة أعمق من الثرثرة ومن وصف سطح الأحداث والبشر. قرأتها وأنا فى الثانية عشرة من عمرى ولا أنسى أثرها إلى الآن.
ثم هزنى كتاب آخر كان اسمه «أ. ب. تشيخوف»، عن سيد القصة القصيرة أنطون تشيخوف، عن حياته وهمومه ونظرته إلى البشر والحياة. تشيخوف الذى قال: «فى الإنسان لا بد أن يكون كل شىء جميلًا، روحه وملابسه وأفكاره». وعندما تعرضت لوعكة صحية فى هذا الشهر أسعدتنى القراءة وأنا راقد معظم الوقت. قرأت رواية مدهشة بكل معنى الكلمة، أتمنى ممن يكتبون أن يجدوها، الرواية هى «شيطنات طفلة خبيثة» للروائى ماريو بارغاس يوسا. عمل مذهل وعذب وعميق بكل معنى الكلمة، ومتاح مجانًا على النت. قرأت أيضًا رواية بديعة باسم «سآخذك وأحملك بعيدًا» للكاتب الإيطالى نيكولو أمانيتى، ورغم حجمها الذى يتجاوز الأربعمائة صفحة فإنك تكاد لا تشعر بذلك بفضل السلاسة والقدرة المدهشة على رسم التفاصيل، هذا رغم أن الرواية لا تصب فى فكرة عامة؛ لكنها ممتعة.
تلك الكتب أعيادى أتركها ويظل أثرها ساريًا مثل ضوء نجمة بعيدة.