في مشهد نابض بالرمزية ويجسد إرادة شعبية متجددة، تجمع عشرات التونسيين من مختلف الأعمار والخلفيات داخل مقر الكشافة وسط العاصمة تونس، استعدادًا للانطلاق في “قافلة الصمود” — مبادرة إنسانية أطلقتها تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين، بهدف كسر الحصار المفروض على قطاع غزة، والتأكيد على استمرار دعم الشعوب العربية للقضية الفلسطينية في مواجهة العدوان والتواطؤ.
القافلة، المقرر انطلاقها في 9 يونيو/حزيران الجاري، ستسلك طريقًا بريًا عبر الأراضي الليبية والمصرية، متجهة نحو معبر رفح — البوابة الجنوبية لغزة، التي تحوّلت اليوم إلى رمز مزدوج: نافذة أمل ضئيلة، ومؤشر مستمر على الخنق والعزل في ظل تصعيد عسكري لا يهدأ.
ورغم الطابع الإنساني العميق للمبادرة، يبرز سؤال مشروع: إلى أي مدى يمكن اعتبار هذا التحرك فعّالًا أو قابلًا للتحقيق، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وتعقيدات المشهد الأمني والسياسي عند الحدود المصرية-الغزية؟
معبر رفح يعيش واحدة من أكثر لحظاته توترًا، بعدما بسطت القوات الإسرائيلية سيطرتها فعليًا على جانبه الفلسطيني. في المقابل، تجد السلطات المصرية نفسها في مواجهة معادلة بالغة الحساسية، تجمع بين ضرورات الأمن القومي وضغوط إقليمية ودولية متزايدة. وتطرح هذه المعطيات احتمالًا خطيرًا: هل يمكن أن تتحول المبادرة — من حيث لا تقصد — إلى فخ سياسي أو أمني، سواء لمصر أو للقضية الفلسطينية، في ظل محاولات الاحتلال المستمرة لتصدير الأزمة نحو الأطراف المحيطة؟
في هذا السياق، قد يبدو إطلاق القافلة تحركًا رمزيًا أكثر منه عمليًا. فحتى إن وصلت إلى بوابة المعبر، فإن دخولها إلى غزة يظل مرهونًا بتوازنات دقيقة وترتيبات سياسية معقدة، إن لم يكن مستحيلًا ميدانيًا في الوقت الراهن. الأخطر من ذلك، أن الاحتلال قد يستغل هذه المبادرة إعلاميًا لتسويق سردية زائفة عن وجود “ممرات إنسانية مفتوحة”، بينما الحقائق على الأرض تؤكد إغلاق كل المنافذ في وجه الغذاء والدواء، وشرعنة التهجير تحت غطاء “المساعدات”.
مع ذلك، فإن أهمية “قافلة الصمود” لا تُقاس بقدرتها على إيصال مساعدات إلى غزة، بقدر ما تُستمد من رمزيتها السياسية والأخلاقية. فهي تعبّر عن وعي شعبي يقاوم الصمت، ويتمسك بفلسطين كقضية مركزية، في وجه موجات التطبيع والانكفاء العربي الرسمي. وفي زمن خذلان الحكومات، تلجأ الشعوب إلى أدوات المقاومة الرمزية، لتؤكد أنها لا تزال تملك الصوت والضمير، وإن غُيبت عن مراكز القرار.
كما تعبّر القافلة عن عمق الإحباط الشعبي من تواطؤ المجتمع الدولي، وتشكّل في الآن ذاته وسيلة ضغط ناعمة تستهدف كسر الصمت، وتنشيط الرأي العام العربي والدولي، عبر الإعلام والتعبئة الشعبية.
“قافلة الصمود”، رغم ما يحيط بها من مخاطر وتحديات، تمثل صرخة ضمير في وجه عالم يتجاهل معاناة غزة. هي رسالة تؤكد أن الشعوب، وإن سُلبت أدوات التأثير المباشر، لا تزال قادرة على الفعل والمواجهة — ولو عبر رموز ومبادرات محدودة الإمكانيات. وفي ظل التواطؤ أو العجز الرسمي، تظل هذه التحركات الشعبية جرس إنذار أخلاقي، يُذكّر بأن غزة ليست وحدها، وأن كرامة الشعوب لم تُدفن بعد، بل لا تزال تنبض بالمقاومة والرفض والكرامة.