يترقب السوريون تدفق الاستثمارات إلى البلد الذي مزقته الحرب الأهلية قرابة 14 عامًا قبل أن يفر الرئيس السابق بشار الأسد إلى روسيا، مودعًا نحو 25 عامًا قضى أكثر من نصفها في حرب مرهقة، وعقوبات اقتصادية دمرت الحياة اليومية للمواطنين الذين بقوا داخل الدولة.
وفي زيارته الأخيرة للمملكة العربية السعودية، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رفع العقوبات التي كانت مفروضة على سوريا، وهو ما اعتبره البعض بداية الخير، وعودة الحياة إلى شرايين الاقتصاد السوري، فيما يتخوف آخرون من أن وجوه السلطة الحالية، ووجود تشكيلات مسلحة منفلتة أكبر العوائق أمام تدفق الاستثمارات.
وبدأت الحكومة السورية مطلع يونيو الجاري، مناقشات رسمية بشأن اتفاقية منحة مقدمة من البنك الدولي بقيمة 146 مليون دولار مخصصة لإصلاح خطوط نقل الكهرباء مع الأردن وتركيا، وذلك في خطوة هي الأولى من نوعها منذ قرابة ثلاثة عقود.
وأكد وزير المالية السوري محمد يسر برنية، أن الاجتماعات الفنية انطلقت بمشاركة ممثلين عن وزارة المالية ووزارة الطاقة ومصرف سورية المركزي، إلى جانب خبراء مستقلين.
وتعد هذه المنحة أول دعم مباشر تقدمه مجموعة البنك الدولي لسوريا منذ ما يقارب الثلاثين عاما.
ليس حلا سحريا
وقال ماهر التمران، ممثل التحالف السوري الوطني، إن رفع العقوبات عن سوريا سيكون له أثر كبير على الاقتصاد السوري، لكنه لن يشكل حلًا سحريًا.
وأوضح أن العقوبات، لا سيما الغربية منها، كانت أحد الأسباب الرئيسية في خنق الاقتصاد السوري وعزله عن النظام المالي الدولي، ما أدى إلى انهيار سعر الصرف، صعوبة الاستيراد، وتعطيل الاستثمار والتحويلات المالية من الخارج.

وأضاف "التمران" لـ"الدستور"، أن العقوبات لم تكن العامل الوحيد في تدهور الاقتصاد السوري، مشيرًا إلى أن الفساد وسوء الإدارة كانا سببين بنيويين في إنهاك الاقتصاد حتى قبل فرض العقوبات.
وأكد، أن رفع العقوبات سيفتح الباب أمام عودة بعض النشاطات الاقتصادية، وتنشيط حركة التجارة، وجذب الاستثمارات، وفتح قنوات تمويل جديدة.
وأشار "التمران" إلى أن للعقوبات جانبًا سياسيًا – اجتماعيًا أيضًا، إذ ساهمت في إضعاف مؤسسات الدولة، ما أدى إلى تفكك جزئي في البنية الوطنية وخلق فراغات ملأتها الولاءات الطائفية والعرقية، موضحًا أن رفع العقوبات يمكن أن يُسهم في تقوية الدولة المركزية، وتعزيز مؤسساتها، بما ينعكس إيجابًا على تماسك النسيج الوطني ويُخفف من حدة التوترات الطائفية التي تغذت على ضعف الدولة خلال السنوات الماضية.
وأكد ممثل التحالف السوري الوطني، أن أمام السلطات السورية الانتقالية فرصة نادرة لإعادة بناء الاقتصاد على أسس سليمة، لكنه شدد على أن ذلك يتطلب تغييرًا جذريًا في الذهنية الحاكمة وفي آليات اتخاذ القرار. ودعا إلى استغلال رفع العقوبات عبر مكافحة الفساد، تبسيط الإجراءات الإدارية، دعم القطاع الإنتاجي، تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وتحفيز عودة الكفاءات ورؤوس الأموال من الخارج.
وأوضح "التمران" أن الأثر المباشر الذي قد يشعر به المواطن يشمل تحسنًا في توفر المواد الأساسية، انخفاضًا نسبيًا في الأسعار، وعودة تدريجية لبعض الخدمات الحيوية كالكهرباء والمياه والأدوية، كما لفت إلى أن تحسن الوضع الاقتصادي قد يُعيد نوعًا من الاستقرار الاجتماعي، ويُقلل من موجات الهجرة، ويُعزز شعور الناس بوجود أفق لتحسين أوضاعهم داخل البلاد.
وختم "التمران" بالتأكيد على أن استعادة الدولة لدورها كمظلة وطنية جامعة، وتقديمها خدمات حقيقية للمواطنين، قد يفتح الباب أمام استعادة جزء من الشرعية الوطنية ويُعيد بناء الثقة بين المواطن والدولة، ما يُساهم في رأب الصدع الاجتماعي الذي خلّفته سنوات الحرب والعقوبات.
تحديات كبيرة
وقال الإعلامي والمحلل السياسي السوري يعرب خيربك: إن الأثر النظري لرفع العقوبات عن سوريا يتلخص في عدة نقاط مهمة، أهمها إمكانية تبادل الأموال ودخولها إلى البنك المركزي السوري، فضلًا عن فتح الأفق للاستثمارات داخل البلاد وتحرير التكنولوجيا التي تساهم في تطور الاقتصاد المحلي.

وأضاف "خيربك" لـ"الدستور"، أن هناك تحديات كبيرة، أبرزها أن العقوبات تظل إحدى العقبات الرئيسية التي تمنع المستثمرين من القدوم إلى سوريا. ومع ذلك، المشكلة الأكبر تبقى في الفوضى الأمنية المستمرة، حيث يجعل وجود التشكيلات المسلحة المنفلتة واندلاع المجازر والاقتتالات الداخلية في مناطق مثل حلب، محيط حماة، دمشق ومدن الساحل من الصعب على أي مستثمر اتخاذ خطوة جادة نحو دخول السوق السوري.
وأكد "خيربك" أن أهم نتائج رفع العقوبات سيكون ضمان حرية الحركة وعودة العمل والإنتاج، كما سيسهم في تحسين عملية التصدير والاستيراد. لكن، يجب أن نكون واقعيين، فقد تعرضت العديد من معامل سوريا للسرقة وتم تسريح أكثر من 60% من موظفي الدولة، مما يتطلب جهودًا ضخمة لاستعادة القدرة الإنتاجية وتفعيل المؤسسات بشكل كامل.
وأشار "خيربك" إلى أن رؤية الاقتصاد السوري بعد رفع العقوبات تعتمد على وجود علاقات اقتصادية بناءة مع الدول التي أبدت استعدادًا للتعاون، وهذا يعزز قدرة سوريا على الاستفادة من دعم هذه الدول لتحقيق الانتعاش الاقتصادي.
ونوه خيربك بأن الاقتصاد السوري يحتاج إلى استقرار أمني كامل، ويجب على الدولة ضبط الوضع الأمني بشكل كامل لضمان استقرار الحياة الاقتصادية. وإعادة تشغيل المنشآت الحكومية وإعادة الموظفين إلى أعمالهم كأمر أساسي في هذه العملية، إذ أن الأمن هو ضمانة أساسية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي.
واستطرد: فيما يتعلق بالتكنولوجيا، فإن هناك إمكانيات كبيرة لتنفيذ مشاريع جديدة تستفيد من العلاقات مع الدول العربية والشعوب المحيطة، وهو ما يمكن أن يسهم في دعم الاقتصاد السوري. لكن هذا يتطلب حكومة تشاركية واسعة تضم جميع الأطراف وتقدم التطمينات اللازمة، وهي خطوة ضرورية لجذب الاستثمارات وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية، وهذه جزء من المطالب الغربية لرفع العقوبات.
وقال "خيربك": إن رفع العقوبات ليس هو الحل الوحيد، بل يجب أن يرتبط بتحقيق الأمن والاستقرار في كافة أنحاء البلاد، وكذلك إجراء إصلاحات اقتصادية وإدارية شاملة لضمان نجاح هذه الخطوة.
خلل عميق وهيكلي
في المقابل، يرى المحلل السياسي السوري محمد عيسى أن قرار رفع العقوبات عن سوريا لن يترك أثرًا كبيرًا على الاقتصاد السوري، الذي يعاني أساسًا من خلل عميق وهيكلي منذ وصول الحكومة الحالية إلى السلطة.

وقال عيسى لـ"الدستور"، إن غياب سياسة اقتصادية واضحة وفعالة، قادرة على توظيف قرار رفع العقوبات لتنشيط مختلف فروع الاقتصاد، يعكس غياب سياسة وطنية جامعة تمثل كافة مكونات المجتمع السوري. وأكد أن ترجمة هذه السياسة لا يمكن أن تتم إلا من خلال تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم جميع الأطياف السورية.
وأشار إلى أن ما حدث بعد سقوط نظام الأسد لم يكن يتوافق مع المتطلبات الوطنية، بل تم تسريح كبار الموظفين وأصحاب الكفاءات، لا لشيء سوى لانتمائهم لطوائف لا تروق للسلطة الجديدة التي وصفها بأنها "إسلامية جهادية غير مؤهلة"، معتبرًا أن هذه السلطة اعتمدت على الولاء العقائدي أكثر من الكفاءة المهنية.
وشدد "عيسى" على أن عددًا من المؤسسات والمنشآت الرابحة تم الاستغناء عنها أو إغلاقها أو نهبها، وهو ما أدى إلى تدهور إضافي في الاقتصاد والخدمات.
ونوه بأن الاستثمار في قرار رفع العقوبات يتطلب أولًا تحقيق الأمن والاستقرار في حياة السوريين، حيث لا يمكن لأي قرار اقتصادي أن يثمر في ظل الفوضى الراهنة، وانتشار عمليات القتل والنهب والتهجير، إضافة إلى التمييز الطائفي والمناطقي، حتى في الرواتب والوظائف.
وأكد، أن الحياة اليومية للمواطن السوري أصبحت رهينة لعوامل الأمن، إذ بات السوريون يبحثون عن الأمان الشخصي، وحرية التنقل بين القرى والبلدات دون خوف من القتل على الهوية، موضحًا أن مجازر ترتكب يوميًا، خاصة بحق أبناء الطائفة العلوية، وكان آخرها مقتل ستة مدنيين في قرية مشقيتا أثناء قيامهم بجني محصول القمح على يد مسلحين ملثمين يُعتقد أنهم مرتبطون بسلطة دمشق.
وختم المحلل السياسي السوري محمد عيسى حديثه بالتأكيد على أن أي جهود دولية لرفع المعاناة عن السوريين لن تؤتي ثمارها دون تشكيل حكومة وحدة وطنية تضع دستورًا جديدًا يعكس تطلعات جميع مكونات الشعب السوري، بعيدًا عن هيمنة طرف واحد أو طائفة بعينها، وفق تعبيره.