بطبيعتى لا أحب الدخول فى مناقشات أيًا كان نوعها على السوشيال ميديا لأمرين، الأول: أن ذلك خارج نطاق قاعات الدرس العلمى والفكرى، وثانيًا لأن السوشيال ميديا تضم كل الفئات ممن يعرف ومن لا يعرف. ولكن طوال الخمسين ساعة الماضية اضطرتنى الظروف لأن أتدخل للرد على كثير من الأمور المخزية الصادرة عن أناس كنت أتصور أنهم يتمتعون بالوعى، ولكنهم خيبوا أملى فيهم، بعد تأييدهم الحبس فى قضايا الرأى عقب صدور الحكم بحبس أخى وصديقى العزيز الدكتور محمد الباز، وانتقادهم البيان المحترم الذى أصدره العزيز خالد البلشى نقيب الصحفيين.
إن فوضى السوشيال ميديا جعلت السجن ثمنًا للكلمة فى عصرنا الرقمى الراهن، وأصبحت منصات التواصل الاجتماعى ساحة معركة لا حدود لها، حيث تتصارع الأفكار والآراء وتتشابك الحقائق بالأكاذيب. وفى خضم هذه الفوضى يبرز مشهد مقلق ومثير للتساؤل وهو إقدام بعض رواد هذه المنصات على الموافقة على الحبس فى قضايا الرأى والتعبير. هذا التطور ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو انعكاس عميق للتحولات التى طرأت على مفهوم الحرية والمسئولية، ويثير تساؤلات جوهرية حول مستقبل حرية النقد. وتتغذى فوضى السوشيال ميديا من عدة مصادر متداخلة. وهى سهولة الوصول والنشر، فأى شخص يمتلك هاتفًا واتصالًا بالإنترنت يمكنه أن يصبح ناشرًا دون أى قيود على المحتوى أو المصداقية. هذا يفتح الباب أمام سيول من المعلومات غير الصحيحة، التى غالبًا ما تكون مدفوعة بالعواطف أو الأجندات الخفية. وهذا ما حدث فى أزمة الدكتور محمد الباز. كما أن غياب آليات التحقق والمساءلة الفعالة جعلت كل الأمور سداح مداح. ولا تزال القدرة على التحقق من صحة المعلومات وتحديد مصادرها الحقيقية محدودة، ما يسهل انتشار الشائعات والأكاذيب كالنار فى الهشيم. وتعمل خوارزميات هذه المنصات على تعزيز المحتوى الذى يحظى بأكبر قدر من التفاعل، بغض النظر عن جودته أو صحته. هذا يعنى أن المحتوى المثير للجدل أو الغاضب غالبًا ما يحقق انتشارًا أوسع، مما يغذى دائرة من الاستقطاب والتوتر.
لكن الجانب الأكثر تعقيدًا فى هذه الفوضى هو التداخل بين حرية التعبير وحدود القانون.
وتعد موافقة بعض رواد السوشيال ميديا على الحبس فى قضايا الرأى والتعبير مؤشرًا خطيرًا على عمق الأزمة.
وهذه الموافقة للفت انتباه الرأى العام ليس إلا. وفى بعض الأحيان قد تكون الموافقة على الحبس ناتجة عن غياب الوعى القانونى الكافى بتبعات مثل هذا القرار.
ويجب أن تكون القوانين المتعلقة بالرأى والتعبير واضحة ومحددة، وتحمى حرية التعبير مع وضع ضوابط واضحة للمسئولية. كما يجب أن تفرق هذه القوانين بين التعبير عن الرأى النقدى البنّاء والتحريض على العنف أو الكراهية. هذا يتطلب مراجعة شاملة للتشريعات الحالية لضمان توافقها مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ووضع تعريفات دقيقة للمفاهيم القانونية لتقليل هامش التأويل.
كما يجب تعزيز الثقافة الرقمية لدى المستخدمين. وهذا يتضمن تعليمهم كيفية التحقق من المعلومات، والتمييز بين الأخبار الحقيقية والزائفة، وفهم تأثير الكلمات على الآخرين، وتشجيع التفكير النقدى قبل النشر أو المشاركة. ويجب أن تبدأ حملات التوعية من المدارس، وتستمر عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعى نفسها، لتمكين الأفراد من التفاعل بمسئولية فى الفضاء الرقمى.
ولا بد من فتح حوار مجتمعى واسع حول حرية التعبير وحدودها فى الفضاء الرقمى، للوصول إلى توازن يحمى الحريات وفى الوقت نفسه يحد من الفوضى. هذا الحوار يجب أن يكون شاملًا ومفتوحًا، ويهدف إلى بناء توافق وطنى حول القيم والمعايير التى تحكم الفضاء الرقمى. إن فوضى السوشيال ميديا وما يترتب عليها من موافقة على الحبس فى قضايا الرأى والتعبير ليست مجرد مشكلة تقنية، بل هى أزمة مجتمعية عميقة تتطلب حلولًا متعددة الأوجه. إنها دعوة للتفكير فى مفهوم الحرية فى العصر الرقمى، وكيف يمكننا أن نضمن أن تبقى السوشيال ميديا مساحة للتعبير البناء والإيجابى، لا ساحة للصدام والقمع. فالحرية قيمة لا تقدر بثمن، والكلمة، وإن كانت رقمية، يجب أن تظل حرة ومسئولة فى آن واحد. لكى لا يصبح السجن هو الثمن الذى يدفعه المرء لمجرد إبداء رأيه.