انزعجت كثيرًا عندما سمعت خبر صدور حكم بحبس أخى وصديقى الكاتب والإعلامى الكبير الدكتور محمد الباز فى قضية رأى بشأن الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم. وسبب انزعاجى الشديد هو أن الدكتور محمد الباز صاحب فكر ورأى مختلف، ودائمًا ما يفتح نقاشات وحوارات واسعة بآرائه الفكرية المتعددة. وهذا الرأى لا يمكن أبدًا بأى حال من الأحوال أن يواجَه بالحبس، أولًا ليس لأنه فوق المسئولية، بل هو أحد الحريصين جدًا على هذه المسئولية. وثانيًا لأنه فى ذات الوقت يفتح نقاشًا مهمًا حول الشاعر أحمد فؤاد نجم، وهذا حقه.
والحقيقة أننى عرفت نجم على مدار ما يزيد على ٢٥ عامًا، ولو هو بيننا الآن لأيدنى الرأى بالرفض بكل شدة وقوة صدور حكم بالحبس فى قضية رأى، وليس اعتراضًا على المحكمة وإنما اعتراض على وأد حرية الرأى والتعبير التى كان يؤمن بها نجم نفسه.
لقد أثارت قضية الحبس فى قضايا النشر والرأى نقاشًا حادًا على الصعيدين المحلى والدولى، والجميع يطالب بإلغاء عقوبة الحبس فى هذه القضايا لضمان حرية الرأى والتعبير. فهذه الحرية حجر الزاوية فى أى مجتمع ديمقراطى مزدهر، فهى تسمح بتبادل الأفكار وتنوع الآراء، ما يؤدى إلى تطور المجتمع وتقدمه.
عندما يتم استخدام عقوبة الحبس فى قضايا النشر والرأى فإنها تخلق بيئة من الخوف والترهيب، ما يحد من استعداد الكتّاب للتعبير عن آرائهم بحرية، حتى لو كانت هذه الآراء قائمة على حقائق أو تهدف إلى مصلحة عامة. هذا الخوف لا يؤثر فقط على الأفراد المعرضين للملاحقة القضائية، بل يمتد ليشمل المجتمع بأكمله، حيث يخشى الكثيرون من التعبير عن أنفسهم خشية التعرض للعقوبة، مما يخنق الإبداع ويحد من النقاش العام حول القضايا المهمة.
إن عقوبة الحبس فى هذه القضايا تتناقض بشكل مباشر مع المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان التى تكفل حرية التعبير، والتى نص عليها العديد من المواثيق والاتفاقيات الدولية. فعلى سبيل المثال، تنص المادة ١٩ من الإعلان العالمى لحقوق الإنسان على أن «لكل شخص الحق فى حرية الرأى والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أى تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأى وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية». وعندما يتم حبس شخص بسبب تعبيره عن رأيه فإن هذا الحق الأساسى ينتهك، ويقوض الثقة فى النظام القانونى، ويدفع المجتمع نحو حالة من عدم الاستقرار.
علاوة على ذلك تستخدم عقوبة الحبس فى قضايا النشر والرأى فى بعض الأحيان كأداة للقمع أو إسكات الأصوات المنتقدة، مما يهدد أسس الديمقراطية ويخلق بيئة من الاستبداد. فعندما يتم استخدام القانون لتكميم الأفواه فإنه يفقد شرعيته ويصبح مجرد أداة للقوة، مما يؤدى إلى تآكل الحريات المدنية وتدهور الحالة العامة لحقوق الإنسان.
كما أن الحبس فى قضايا النشر والرأى غالبًا ما يكون غير متناسب مع طبيعة الجريمة المزعومة، ففى كثير من الحالات يكون الهدف من النشر هو إثارة نقاش عام أو كشف قضايا فساد، وليس إلحاق ضرر. وبدلًا من اللجوء إلى عقوبة الحبس، يمكن تبنى آليات أخرى للتعامل مع هذه القضايا، مثل التعويض المالى أو تصحيح المعلومات أو الاعتذار العلنى، وهى آليات يمكن أن تحقق العدالة دون المساس بحرية التعبير.
لذلك فإن إلغاء عقوبة الحبس فى قضايا النشر والرأى ليس مجرد مطلب حقوقى، بل هو ضرورة استراتيجية. وفى الوقت الذى تتجه فيه العديد من الدول المتقدمة نحو إلغاء تجريم النشر والرأى، فإن الإصرار على استخدام عقوبة الحبس فى هذه القضايا يعد تراجعًا عن مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
وقد أثبتت التجارب أن إلغاء عقوبة الحبس لا يؤدى إلى الفوضى أو الإساءة، بل يؤدى إلى تعزيز النقاش العام وتطوير المجتمع. إن الحل الأمثل هو تبنى نهج شامل يجمع بين حماية حرية التعبير ووضع آليات فعالة للتعامل مع التجاوزات، من خلال تطوير قوانين عادلة تحمى الحقوق الفردية دون المساس بالحريات العامة.
إن التوازن بين حرية التعبير وحماية المجتمع من التجاوزات ليس مستحيلًا، بل يتطلب إرادة وتفهمًا عميقًا لأهمية حرية الرأى والتعبير كركيزة أساسية للديمقراطية. ويجب على الدول أن تدرك أن الحبس فى قضايا النشر والرأى لا يعالج المشكلة من جذورها، بل يؤجلها ويخلق مشكلات جديدة. ولذلك فإننى أرفض الحبس فى قضايا النشر والرأى وأتضامن بكل قوة مع الدكتور محمد الباز الذى يطرح آراءً وأفكارًا تستحق النقاش والنقد.