منذ أن عرف الإنسان ظاهرة الملكية التي أفضت إلى ظهور السلطة السياسية لاحقا، بدأت قصة الدولة ككيان يحتكر القوة وينظم العلاقات، يتشكل ويتحور وفق صيرورة التاريخ ومقتضيات التطور البشري، إلى أن وصلنا إلى الشكل الحالي للدولة.
كانت معاهدة ويستفاليا عام 1648، لحظة التأسيس الأولى لما بات يُعرف لاحقا بـ"الدولة الحديثة".
لم تضع "ويستفاليا" نهاية لحروب دينية طويلة ودموية في أوروبا فقط، بل أسست لميلاد الدولة القومية ذات السيادة بوصفها الوحدة الأساسية في التنظيم السياسي للعالم. ولأول مرة، يعترف البشر بحق كل دولة في التحكم الكامل بشؤونها الداخلية، دون تدخل خارجي، على قاعدة "السيادة المتكافئة" التي أعطت للأمراء والملوك سلطة تقرير الدين والنظام داخل أراضيهم.
بهذا المعنى، شكلت "ويستفاليا" الركيزة القانونية والسياسية لفكرة الدولة الحديثة: كيان محدد بجغرافيا، له حكومة، وسكان، وجيش، وسلطة حصرية على أراضيه.
من هذه النقطة تحديدا، بدأ مفهوم "السيادة" يؤسس لشرعية الحكم، وانتقلت السلطة من السماء (الحق الإلهي للملوك) إلى الأرض، لتصبح الدولة بمؤسساتها وأدواتها مدير السياسة الأوحد، ومحتكر العنف المشروع كما عرفها ماكس فيبر لاحقا.
هذا المفهوم الذي صمد قرونا، يبدو اليوم في مهب التحول الرقمي، بعد أن أصبحت الحدود سيبرانية، والسيادة خاضعة لخوارزميات وبيانات عابرة للحدود والجغرافيا.
الواقع الجديد يطرح الأسئلة الكبرى: هل ما زالت الدولة ويستفالية ببنيتها التقليدية؟ أم أن الخوارزميات تعيد حاليا تفكيك شكلها الكلاسيكي؟
الدولة بإطارها التقليدي التي عكست لقرون حاجة الإنسان إلى التنظيم والسيطرة والردع، تواجه اليوم بفعل الرقمنة انقلابا جذريا في بنيتها. انقلاب يتطلب أكثر من مجرد حراسة الحدود بالجيوش إلى حمايتها بالحوائط السيبرانية، ومن احتكار العنف المشروع إلى التحكم في تدفق البيانات، ومن قائد أو زعيم يعتلي المنصات ليخطب في الجماهير إلى مدير "باك إند" يطالع لوحة تحكم رقمية، يرسل من خلالها رسائله الموجهة بضغة زر.
بهذا المعنى، لم تعد الدولة الحديثة تقف على أعمدة المؤسسات الدستورية وحدها، بل على شفرات رقمية تمتد من خوادم في "وادي السيليكون" إلى أقبية وزارات الداخلية في مختلف الدول، ومن كاميرات الشوارع إلى محركات الذكاء الاصطناعي التي تتعلم من سلوك البشر وتعيد هندستهم.
نحن أمام تحول الدولة إلى كيان ما بعد- سياسي. دولة لا تؤدي واجباتها المنشودة كما حلم مفكري اليسار، ولا تقوم بوظائفها المعهودة كما تمنى منظري الليبرالية، لكنها دولة تتخفى السلطة فيها خلف "كود" برمجي يجعلها أكثر خطورة لأنها غير مرئية، وبالتبعية غير قابلة للمساءلة.
من فكر ميشيل فوكو إلى زيجموند باومان، ومن بودريار إلى سلوتردايك، نحاول الاقتراب من مساحة الأسئلة الشائكة: كيف يُعاد تشكيل الدولة العصرية في زمن الخوارزميات؟ وهل نحن بصدد انتظار فكر سياسي جديد يواكب المعطيات التكنولوجية أو ما يمكن وصفه بـ"الفلسفة الرقمية" يضع إطارا جديدا للدولة الرقمية غير الويستفالية؟
لا شك أننا الجيل الذي يشهد بداية الانقلاب في القاعدة الهرمية للسلطة ونوعيتها. كما شهدنا قبل ذلك تغيرات كثيرة غيرها، أبرزها الانتقال من الأنالوج (التناظري) إلى الديجيتال (الرقمي) في الأجهزة الإليكترونية، الذي يشبه في تأثيره على البشرية تأثير الانتقال من العصر الحجري إلى العصري البرونزي قديما.
نحن على أعتاب مرحلة جديدة تنتقل فيها أدوات الدولة الملموسة إلى أخرى خفية، وتتحول فيها آليات السلطة الصلبة إلى شبحية، ولا يتم صناعة واتخاذ القرارات فيها داخل قصور ومؤسسات الحكم، بل يتم إنتاجها في منصات خلفية، تُدار من خلال لوحات تحكم.
بعبارة أكثر وضوحا نحن على موعد مع نسخة جديدة من دولة لا تُدار، بل تُبرمج.
في هذا السياق، تتحول "الرقمنة" إلى قطيعة تامة مع الدولة القديمة، بعد أن باتت البيروقراطية الورقية غير قادرة على الصمود أمام موجة الأتمتة. مؤسسات الإدارة التي كانت تحتكم إلى الأختام والتوقيعات أصبحت تسيرها خوارزميات تبت في الطلبات وتقيم السلوك وتصنف المواطنين كما لو كانوا بيانات في جدول.
في كتابه المرجعي "المراقبة والمعاقبة"، يذكرنا ميشيل فوكو بأن السلطة الحديثة لم تعد بحاجة إلى أدوات القمع الصلبة، بل إلى هندسة داخلية تفرض الطاعة على الجميع. الرقمنة عمّقت هذا النمط من السلطة حتى أقصى حدوده، إذ لم تعد السلطة تمارس من أعلى إلى أسفل، بل تتسلل عبر شبكات غير مرئية من الذكاء الصناعي، تتعلم من سلوك الأفراد وتعيد هندستهم اجتماعيا.
عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان صاحب المقولة الشهيرة، "نحن لا نخضع فقط للمراقبة، بل نُسهم طواعية في بناء ملفاتنا الاستخباراتية"، اعتبر أن المواطن الرقمي يغذي بنفسه المنصة التي تراقبه، بمشاركاته وتعليقاته ونمط استهلاكه وحتى عدد نقراته على الشاشة.
مع هذا التحول، لم يعد سؤال السيادة مجرد مسألة تتعلق بمن يحكم، بل بمن يمتلك القدرة على الوصول إلى البيانات وتحليلها وتفسيرها وإعادة توجيهها.
حين تتحكم شركة خاصة في بيانات ملايين المواطنين، أو حين تُبنى قرارات الأمن القومي على تحليل سلوك المستخدمين في الفضاء الإلكتروني، من يكون "مصدر السيادة وصاحب السلطان" حينها؟ هل هو الوزير صاحب القرار أم المهندس الذي كتب الكود؟ هل هو السياسي أم الخوارزمية التي ترشح له السيناريو الأمثل للحركة والفعل السياسي؟
بحكم قطعي الثبوت والدلالة، تتجه الرقمنة لكي تكون قوة "فوق دولتية" كما لو أن بيروقراطية من نوع جديد تولد على أيادينا. لا تنتمي إلى الدولة، لكنها تديرها. بيروقراطية من نوع جديد، لا تعمل في المكاتب وفضاء المؤسسات، بل في "السيرفرات" والفضاء السحابي، بنظام إداري لا يحتاج إلى موظفين، بل إلى مجرد أكواد، ما يمكن تعريفه وفقا لبيتر سلوتردايك بـ"انقراض الشكل الكلاسيكي للقرار السياسي".
في هذا التحول الدراماتيكي، لم تعد الجغرافيا كافية لفهم الأمن القومي. الحدود التي كانت تحميها الدبابات، أصبحت مخترقة من لوحة مفاتيح في قبو صغير في واشنطن أو موسكو أو تل أبيب أو طهران. الدولة تحولت إلى دالة خوارزمية، مرتبطة بجغرافيا جديدة: جغرافيا البيانات. وبات الجيش السيبراني أحد أركان الدفاع الاستراتيجي، لا لصد الهجمات فقط، بل لشنها أحيانها. للتحكم في الرأي العام وتوجيهه من خلال الذكاء الاصطناعي، لا من خلال خطابات القادة الزعماء.
بحسب المفكر الفرنسي جان بودريار، فإن السلطة في العالم الرقمي ليست في يد من يمتلك الحقيقة، بل من يتحكم في انتشارها. حيث من يسيطر على تدفق المعلومات في عصر الرقمنة يستطيع أن يعيد تشكيل الإدراك العام، وأن يصنع واقعه الخاص، ويخلق ما يُعرف في أدبيات علم الاجتماع بـ"الواقع المفرط – Hyperreality"، ذلك الذي يختلط فيه الخيالي بالحقيقي لدرجة لا يكون هناك تمييز واضح يحدد اين ينتهي احدهما وأين يبدأ الآخر
الخطر الأكبر في هذا السياق ليس فيما هو معلن، بل في اللا-مرئي. وكما يقال في علم البيانات: "الواجهة نظيفة لأن الكود معقّد"، فإن ما يهدد الدولة الرقمية ليست الكاميرا التي نراها، بل الخوارزمية التي لا نراها. الخوارزمية التي تقرر من يشاهد ماذا، ومن يُمنع من النشر، ومن يُصنف على أنه مواطن صالح أو عنصر مشاغب.
نظام "النقاط الاجتماعية" أو نظام "الرصيد الاجتماعي" في الصين الهادف إلى تقييم أداء الأفراد والشركات بناء على سلوكهم الاجتماعي والاقتصادي، لتحديد مدى أهلية الأفراد للحصول على الخدمات أو الفرص، يلخص هذا التحول المرعب
الدولة الرقمية لن تكون بحاجة إلى شرطي يرفع عصاه في وجه المحتجين، بل إلى منصة رقمية ترصد استهلاكك، تعليقاتك، وسلوكك العام. لا تلوح بهراوات الأمن المركزي، لكنها تهدد بالحظر، حذف الحساب، وتقييد الوصول.
الرقمنة، بهذا المعنى، ليست مجرد أداة تحكم تكنولوجي، بل مشروع لإعادة تعريف الإنسان ذاته داخل بنية الدولة الحديثة. لم يعد المواطن كما عرّفته السياسة الكلاسيكية فردا حاملا لجنسية الدولة، يتمتع بمجموعة من الحقوق ويلتزم بمجموعة أخرى من الواجبات داخل نطاق جغرافي معلوم، بل تحوّل – على نحو غير معلن – إلى حزمة بيانات متحركة، تتفاعل معها المنصات الذكية، وتعيد فرزها وفق خوارزميات صماء لا تعنيها إرادة الإنسان الحر، ولا تعترف بالخيارات البشرية.
السؤال المحوري الذي ينبغي أن يحتل مساحات التفكير العام الآن وليس غدا: هل يمكن للرقمنة أن تكون أداة تحرر ديموقراطي، أم أنها نواة استعمار من نوع جديد؟ وهل يمكن إخضاع الخوارزميات لمبادئ الشفافية والمساءلة، أم أنها ستظل تعمل في الخفاء، تقرر لنا واقعنا وتحدد مصيرنا دون معرفة من يتحكم بها ويوجهها ويهندس مخرجاتها؟
من المبكر اعتبار أن الدولة الويستفالية تحتضر، لكنها تتغير جذريا. وكما يقول فوكو "السلطة لا تتلاشى، بل تنتقل إلى مواقع جديدة". وفي زمن الرقمنة، قد تكون هذه المواقع خارج متناول المواطن، خارج الرؤية، وخارج المحاسبة.