أطلق الجاحظ أديب العربية الأكبر على الذين يمتنعون عن المشاركة فى الحياة السياسية، والذين يؤثرون الجلوس فى بيوتهم، وعدم التفاعل مع الأحداث لفظ "الحِلْسيَّة"، وهو ما يعرف حديثا فى عصرنا الحالى بـ"حزب الكنبة"، ففى كتابه "البيان والتبيين" يقول: وكان مُرَّة الهمدانى – رجل زاهد - يقول: لما قتل عثمان – رحمه الله - حمدت الله ألا أكون دخلت فى شىء من قتله، فصليت مئة ركعة. فلما وقع الجمل وصفين حمدت الله ألا أكون دخلت فى شىء من تلك الحروب، وزدت مئة ركعة. فلما كانت وقعة النهروان حمدت الله إذ لم أشهدها، وزدت مئة ركعة. فلما كانت فتنة ابن الزبير حمدت الله إذ لم أشهدها، وزدت مئة ركعة.
وهنا يعقب الجاحظ على مسلك مُرَّة، فيقول: وأنا أسأل الله أن يغفر لمرة، على أنَّا لا نعرف لبعض ما قال وجهًا؛ لأنك لا تعرف فقيها من أهل الجماعة لا يستحل قتال الخوارج، كما أنا لا نعرف أحدا منهم لا يستحل قتال اللصوص، وهذا ابن عمر - انتبه لوصف الجاحظ لابن عمر – وهو رئيس الحِلْسيَّة بزعمهم- قد لبس السلاح لقتال نجدة". أ. هـ
وشرح المحقق عبد السلام هارون – رحمه الله- كلمة الحلسية فقال: الحلسية من قولهم: فلان حِلْسُ بيته، أى لا يبرحه.
فكانت هناك جماعة قد اعتزلت الحياة السياسية ولم تشارك فى أحداثها، وكان ابن عمر – رضى الله عنهما – زعيمهم كما يقول الجاحظ.
رفض الجاحظ النأى بالنفس والميل إلى الأمان وترك الآخرين يفعلون ما يحلو لهم رغم الضرر الواقع على المجتمع، وهذا ما نعانيه ونعيشه الآن، فدائما ما نسمع كلمة (وأنا مالى خلينى فى حالى)، فلابد من المشاركة فى الحياة العامة، ولابد أن نكون فاعلين بها ومؤثرين فيها، فعلينا أن نفارق الكنبة ونمارس حقوقنا الدستورية، وأن نغير وجه مصر إلى الأفضل، وألا نكتفى بدور المتابع فقط.
لكن ما الذى دعا الجاحظ إلى أن يطلق لفظ الحلسية على ابن عمر؟ إن القارئ فى سيرة ابن عمر يدرك مدى حرصه على عدم الانغماس فى الفتن التى كانت فى عصره، بل إنه كان حريصا على عدم سفك دم مسلم واحد، حتى لو كان الأمر له، ففى الطبقات لابن سعد أنه قال: لو اجتمعت علىَّ أمة محمد إلا رجلين ما قاتلتُهما. وفى سير أعلام النبلاء للذهبى أن الناس فى زمن الفتنة قد أتوا ابن عمر، فقالوا: أنت سيد الناس وابن سيدهم، والناس بك راضون، اخرج نبايعك. فقال: لا والله لا يهراق فى مِحْجَمَة من دم ولا فى سببى ما كان فى روح. وأن عمرو بن العاص عرض عليه الخلافة فى مقابل أن يبذل المال. قال عمرو لابن عمر: إنا نريد أن نبايعك، فهل لك أن تعطى مالا عظيما على أن تدع هذا الأمر لمن هو أحرص عليه منك؟ فغضب وقام. فأخذ ابن الزبير بطرف ثوبه، فقال: يا أبا عبد الرحمن إنما قال: تعطى مالا على أن أبايعك. فقال: والله لا أعطى عليها ولا أعطى ولا أقبلها إلا عن رضا من المسلمين.
وكان هناك شبه اتفاق على ابن عمر فى عقد الخلافة له، حتى إن بعض الناس قد لاموه على عدم مطالبته بها، وعدُّوه لهذا من أكثر الناس شرًّا على الأمة، لكنه خشى أن يختلف عليه واحد من المسلمين فيقتل بسببه فيسأل عن دمه ابن عمر، يروى ابن سعد أن رجلا أتى ابن عمر، فقال: ما أحد شرٌّ للأمة منك، فقال: لِمَ؟ فوالله ما سفكتُ دماءهم ولا فرَّقتُ جماعتهم ولا شققتُ عصاهم، قال: إنك لو شئتَ ما اختلف فيك اثنان، قال: ما أحب أنها أتتنى ورجل يقول لا، وآخر يقول بلى.
وجاء فى الطبقات وسير أعلام النبلاء أيضا أن معاوية بن أبى سفيان أراد أن يعلم ما فى نفس ابن عمر تجاه منصب الخلافة، هل له رغبة فى المنصب أم فعلا هو راغب عنها كما يزعم، فاستعان بصديقه عمرو بن العاص، ليستكشف ما فى داخله، فسأله عمرو لماذا لا تطالب بالخلافة وأنت أحق الناس بها، فأنت صاحب الرسول صلى الله عليه وسلم وابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فسأله ابن عمر: قد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟ قال: نعم، إلا نُفَيرٌ يسير. قال: لو لم يبق إلا ثلاثةُ أعلاجٍ بهَجَرَ لم يكن لى فيها حاجة. قال: فعلم أنه لا يريد القتال. فقال: هل لك أن تبايع من قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه ويكتب لك من الأرضين والأموال؟ فقال: أف لك! اخرج من عندى، إن دينى ليس بديناركم ولا درهمكم، وإنى أرجو أن أخرج من الدنيا ويدى بيضاء نقية.
كانت الأمة فى محنة بعد وفاة عثمان بن عفان رضى الله عنه، فدبت الخلافات بين الإمام على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان، رضى الله عنهم، ووقعت المعارك بين الفريقين، وانتهت بموت الإمام على، وآل الأمر إلى معاوية. ثم وقعت المحنة مرة أخرى بعد وفاة معاوية، فاستشهد الحسين بن على، وكان ابن عمر قد نصح له بألا يذهب إلى أهل الكوفة، لكن الحسين آثر السير فى طريقه، فاعتنقه ابن عمر وبكى، وقال أستودعك الله من قتيل. وبعد استشهاد الحسين يثور عبدالله بن الزبير الذى رأى أنه الأحق بالخلافة، ويُقتل مصعب بن الزبير على يد عبدالملك بن مروان، ويظفر الحجاج بن يوسف الثقفى بابن الزبير بعد أن حاصره بمكة قرابة سبعة أشهر. وفى كل هذا يظل ابن عمر ثابتا على حياده، معتزلا الفتن، داعيا إلى صيانة دماء المسلمين، حتى إن مروان بن الحكم قد دعاه إلى بسط يده لمبايعته بالخلافة بعد وفاة يزيد بن معاوية وابنه معاوية، فقال له: هلم يدك نبايعك، فإنك سيد العرب وابن سيدها، قال ابن عمر: كيف أصنع بأهل المشرق؟ قال مروان: تضربهم حتى يبايعوا، قال ابن عمر: والله ما أحب أنها دانت لى سبعين سنة، وأنه قتل فى سببى رجل واحد. قال مروان:
إنى أرى فتنة تغلى مراجلها والمُلك بعد أبى ليلى لمن غلبَا
وأبو ليلى هذا هو معاوية بن يزيد بن معاوية.
وليس لابن عمر أعداء، فهو لا يكفر أحدا، ويصلى وراء الجميع، من كان على الحق ومن كان على الباطل، حتى لاموه فى ذلك، وقالوا له: أتصلى مع هؤلاء ومع هؤلاء، وبعضهم يقتل بعضا؟ رد عليهم ابن عمر قائلا: من قال حى على الصلاة أجبته، ومن قال حى على الفلاح أجبته، ومن قال حى على قتل أخيك المسلم وأخذ ماله قلت لا.
وذكروه بقول الله عز وجل "وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما"، فقال ابن عمر: لأن أعتبر بهذه الآية، فلا أقاتل، أحب إلى من أن أعتبر بالآية التى يقول فيها: "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها"، فقالوا له: ألا ترى أن الله يقول وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، قال ابن عمر: قد فعلنا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان الإسلام قليلا، وكان الرجل يفتن فى دينه، إما أن يقتلوه وإما أن يسترقوه، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة.
هكذا هو ابن عمر رضى الله عنه، قد اعتزل الفتن، وآثر الحياد، وألا تنغمس يداه فى قتل مسلم واحد، يفهم الدين حق الفهم، ولم ينخدع بحلو الكلام ولم يغتر بالدنيا، ولم يتورط فى أخذ البيعة لأحد، إنما يبايع عندما تبايع الجماعة.


















0 تعليق