كتاب "التاريخ الوجيز لمحاكم التفتيش بإسبانيا" للمؤرخ الفرنسي جوزيف بيريز (ترجمة د. مصطفى أمادي) لا يكتفي بأن يروي تاريخ مؤسسة أوروبية مثيرة للجدل، بل يعيد ترتيب الحكاية على هيئة "سؤال أخلاقي" ممتد: كيف تتحول فكرة حماية الإيمان إلى جهاز يراقب الأرواح، ويقيس النوايا، ويعيد صوغ المجتمع على مقاس دولة تريد وحدةً بلا اختلاف؟
يرجع بيريز إلى لحظة التأسيس سنة 1478م في عهد إيزابيلا وفرديناند، موضحًا أن البداية لم تكن مطاردة "الهرطقة" بمعناها الفضفاض، بل كانت مراقبة "المسيحيين الجدد" من المتحولين عن اليهودية (الكونفرسوس): هل غيروا معتقدهم حقًا، أم أن الطقوس القديمة ما زالت تُمارَس في الخفاء؟ هنا يظهر جوهر المؤسسة، الشك بوصفه نظامًا، والريبة بوصفها سياسة دولة.
ثم يلفت الكتاب إلى خصوصية محاكم التفتيش الإسبانية مقارنة بنظيراتها، فهي، في جوهرها، مؤسسة مرتبطة بالتاج أكثر من ارتباطها بالكنيسة، لهذا صارت "أداة مزدوجة" دينية وسياسية تعمل على تعزيز الوحدة تحت راية الكاثوليكية وترسيخ سلطة الدولة الناشئة، ليست مجرد محكمة، بل جهاز إداري يضبط "المسموح" و"غير المسموح" داخل المجتمع.
وفي تفاصيل العمل، يضع بيريز القارئ أمام منظومة تقوم على السرية، والوشاية، والتعذيب بوصفه وسيلة لانتزاع الاعتراف مع الإشارة إلى أن التعذيب كان يخضع لضوابط قانونية مقارنة ببعض أنظمة ذلك العصر، لكنه يظل، في النهاية، آلية لإجبار الإنسان على الاعتراف بما تريده السلطة منه، ومع اتساع القرون اتسعت الدائرة: موريسكيون بعد سقوط غرناطة، بروتستانت مع الإصلاح الديني، مفكرون وعلماء، وصولًا إلى "جرائم الأخلاق" كالسحر والتجديف.
ويقدم الكتاب أحد أكثر المشاهد دلالة، الأوتودافي، احتفال عام تُقرأ فيه الأحكام في الميادين، وتتدرج العقوبات من التوبة العلنية حتى الإعدام حرقًا لمن يرفض "الرجوع"، كأن العقوبة هنا ليست للمتهم وحده، بل "درس" للمجتمع كله.
وعندما يدخل التنوير وتتبدل العقليات، يبدأ الانهيار حتى الإلغاء النهائي سنة 1834م. وبين البداية والنهاية يحاول بيريز الفصل بين التاريخ الموثق و"الأسطورة السوداء"، لكنه لا يبرئ المؤسسة: بل يشرح كيف صارت محاكم التفتيش "منخلًا سياسيًا ودينيًا" صُمم لتنقية المجتمع من أي اختلاف لا يطابق قالب الدولة، ففاز بالوحدة وخسر التنوع الإنساني والفكري.
التاريخ الوجيز














0 تعليق